كتاب تعريف عام بدين الإسلام-قواعد العقائد-

قَواعدُ العقَائدِ[1]

   أدخل الاسم المراد البحث عنه 

القاعدة الأولى:

ما أدركه بحواسي لا أشك في أنه موجود.  هذه بديهية عقلية مسلّمة.

ولكن المشاهد أني أمشي في الصحراء ساعة الظهيرة، فأرى بركة ماء، تلوح ظاهرة للعين، فإذا جئتها لم أجد إلا التراب لأن الذي رأيته سراب.  وأضع القلم المستقيم في كأس الماء، فأراه منكسراً، وهو لم ينكسر.  ويكون المرء في سهرة، الحديث فيها عن الجن والعفاريت، ثم يذهب إلى داره، فإن كان الطريق خالياً مظلماً، وكان مخلوع القلب، واسع الخيال، رأى أمامه جنياً أو عفريتاً، فشاهده وأحس بوجوده، وما ثمة شيء مما رأى.  والسحرة والمشعوذون يعرضون غرائب تراها ولا حقيقة لها.

فالحواس إذن تخطئ، وتخدع، وتتوهم، أو يتوهم صاحبها.  فهل أشك لهذا في وجود ما أحس به؟

لا، لأني إن شككت فيما أرى وأسمع وأحس، تداخلت لديّ الحقائق والخيالات.  وصرت أنا والمجنون سواء.

ولكن أضيف شرطاً آخر لحصول العلم (أي اليقين) بوجود ما أحسه، هو: ألاّ يحكم العقل بالتجربة السابقة أن الذي أحس به وهم أو خداع حواس، والعقل يخدع أول مرة، فيحسب السراب ماءً، فإذا رآه مرة أخرى أدرك أنه سراب.  والعقل يحكم بعد أن رأى القلم منكسراً أول مرة، أنه لا يزال مستقيماً كما كان وإن بدا للعين منكسراً.  والأمور التي تخطئ فيها الحواس أو تخدع، أمور محدودة معدودة معروفة، لا تبطل القاعدة ولا تؤثر فيها، ومنها عمل سحرة فرعون، وما يعمله سحرة (السيرك) في هذه الأيام.

القاعدة الثانية:

هناك أشياء ما شاهدناها ولا أحسسنا بها، ولكن نوقن بوجودها كما نوقن بوجود ما نشاهده ونحس به.  نوقن بوجود الهند والبرازيل، ولم نزرهما ولم نرهما، ونوقن بأن (الإسكندر المقدوني) فتح بلاد فارس، و(الوليد بن عبد الملك) بنى الجامع الأموي، ولم نحضر حروب الإسكندر، ولا شهدنا بناء الجامع الأموي.

ولو نظر كل واحد منا في نفسه لرأى أن ما يوقن بوجوده من الأشياء التي لم يرها، أكثر من الأشياء التي رآها من الممالك والبلدان، ومن حوادث التاريخ الذي كان، ومما يقع الآن.

فكيف أيقن بوجود هذه الأشياء وهو لم يدركها بحواسه؟

أيقن به حين نقله جماعات عن جماعات، لا يتصور إمكان اتفاقهم (في العادة) على اختراع هذه الأخبار، ونقلها كذباً.

فالقاعدة الثانية: أن اليقين كما يحصل بالحس والمشاهدة، يحصل بالخبر الذي نعتقد صدق صاحبه.

 

القاعدة الثالثة:

ما مدى العلم الذي تبلغه الحواس؟ وهل تستطيع أن تصل إلى إدراك كل موجود؟

إن مثل النفس والحواس مع الموجودات، كمثل رجل سجنه الحاكم في برج القلعة، وسدّ عليه الأبواب والنوافذ، ولم يترك له إلا شقوقاً في جدار البرج، شقاً يطل منه على النهر يجري في الشرق، وشقاً على الجبل الذي يقوم في الغرب، وشقاً على القصر الذي يجثم في الشمال، وشقاً على الملعب الذي يقع في الجنوب.

السجين هو النفس، والقلعة الجسد، وهذه الشقوق هي الحواس: حسّ النظر يشرف منه على عالم الألوان، وحسّ السمع على عالم الأصوات، وحسّ الذوق على عالم الطعوم، وحسّ الشم على عالم الروائح، وحسّ اللمس على عالم الأجسام.

1- والسؤال الآن: هل أدرك بكل حاسة من هذه الحواس كل ما في العالم الذي تشرف عليه؟ السجين عندما ينظر من شق النهر، لا يرى النهر كل   



[1] أستأذن قارئ كتابي: أن أمهد لذكر هذه القواعد بكلمة ليست من موضوع هذا الكتاب، ولكنها تبين قصتها، وكيف وصلت إليها.  وتفصيل ذلك:

أنني كنت أدرس الأدب العربي في بغداد قبل الحرب الثانية، فكلفت في النصف الثاني من العام أن أدرس معه الدين، وكان منهج الدين سوراً من القرآن تفسر وتشرح، فقبلت ودخلت فإذا الفصل في هرج ومرج، وكان عهدي به في درس الأدب هادئاً ساكناً، وإذا الطلاب يتخذون من درس الدين مسلاة ومضيعة للوقت، وأدركت أن سبب ذلك ضعف في نفوسهم، فقلت لهم ارفعوا المصاحف واسمعوا، وألهمني الله إلهاماً مفاجئاً، بلا إعداد سابق بحثاً جديداً في الإيمان، وضعت فيه بعض هذه القواعد، ونشرت خلاصته في الرسالة سنة (1937)، وهو في كتابي "فِكَر ومباحث".  ولما كُلّفت وضع مناهج مدارس الأوقاف قي سورية (أيام الوحدة)، وضعتها كلها وحدي، وطبّقت كما وضعتها، أدخلت هذه القواعد في المنهج، ودلّلت على ما كتبت ليكون مرجعاً.  فأخذه أحد المؤلفين في العقائد وادعاه لنفسه، ووضعه في كتابه، ولكن لم يهتد إلى ما أريد منه.  فمشى في أول الطريق وضاع في آخره.  فلنا أُحلت على المعاش (وكنت مستشار محكمة النقض)، ذهبت إلى الرياض، ثم إلى مكة، أدرس في كلية التربية فيها سنة 1384، رجعت إلى هذه القواعد، وزدت فيها حتى بلغت ثماني قواعد، هي التي أذكرها هنا.  

 

 

-------------------------------------------------------------------------------------

لمراسلتنا ||الصفحة الرئيسة|| أفضل المواقع العربية ||أفضل ألف موقع عربي

موقع الجميع

البقية قريباً